في ليلة السابع من أغسطس عام 2008، عبرت وحدات الجيش الثامن والخمسين الروسي الحدود الجورجية المعترف بها دولياً. وهكذا بدأ ما أكدت كل الأدلة لاحقاً أنه كان جزءاً من مخطط لغزو عسكري واسع النطاق يستهدف الإطاحة بحكومتي وتوسيع هيمنة روسيا على المنطقة والدول المجاورة لها. وبعد مرور عام واحد على ذلك الاجتياح، أظهرت النتائج ما لم يتوقعه الكرملين مطلقاً. فقد لقي 140 من مواطنينا مصرعهم جراء ذلك العدوان، مع العلم أن معظمهم من المدنيين، بينما تجاوز عدد الإصابات الـ1700 مواطن. وفوق ذلك كله، أرغم ما يقارب 130 ألفاً من السكان على الفرار من بيوتهم، وفقاً لإحصاءات المندوب السامي لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة، بمن في هؤلاء عشرات الآلاف من المواطنين الذين تم تطهيرهم عرقياً من القرى الجورجية الواقعة في إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. أما تكلفة الخسائر المادية التي نجمت عن الحرب، فتقدر بمليارات الدولارات. وفي انتهاك واضح لاتفاق وقف إطلاق النيران الذي وقع عليه الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف في الثاني عشر من أغسطس من العام الماضي، ظل حوالي 10 آلاف جندي من جنوده في إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا المحتلين. وبالإضافة إلى ذلك، لم تتوقف التحرشات والاستفزازات الروسية. فقد بلغ عدد القتلى من قوات الشرطة الجورجية في الإقليمين المحتلين 28 شرطياً لقوا حتفهم بطلقات القناصة الروس هناك. وفي الأيام القليلة الماضية، صدر عن موسكو من الأفعال والتصريحات الاستفزازية النارية، ما يردد أصداء غزوها لبلادنا في العام الماضي. ورغم الرقابة الدولية المفروضة عليها، مارست موسكو حق النقض "الفيتو" ضد مشروع قرار أممي يقضي بنشر قوات مراقبة دولية وبعثات للغرض نفسه تابعة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي. وضمن انتهاكاتها لاتفاق وقف إطلاق النار، منعت موسكو المراقبين التابعين للاتحاد الأوروبي من الدخول إلى المناطق التي تحتلها في جورجيا. ورغم كل هذا، وفيما يتجاوز الكثير من التوقعات، استطاعت جورجيا النهوض على قدميها من محرقة ودمار الغزو. فها هي مؤسساتنا الديمقراطية تنمو وتزدهر، بينما عاد تدفق المستثمرين الأجانب إلى بلادنا. وعلى العالم أن يدرك أن سلوكيات موسكو العدوانية التي كشفت عنها بغزوها المذكور، لم تعد تهدد استقرار واستقلال جورجيا وحدها، وإنما تمثل تهديداً خطيراً لاستقرار المنطقة كلها. ومنذ ثورة البرتقال التي اشتعلت مظاهراتها الشعبية في عام 2003، واصلنا العمل من أجل استبدال تلك الدولة الفاشلة الغارقة في فسادها وعجزها، بدولة أخرى حديثة مسؤولة متحالفة مع الغرب، تتم إدارتها وفق المعايير الأوروبية، وتتمسك بالتزامها بقيم الديمقراطية الليبرالية ومبادئ السوق الحرة، إلى جانب سعيها لبناء علاقات سلمية مع جيرانها الإقليميين. وليس ثمة غرابة في هذه التوجهات بعد مرور عشرين عاماً على انهيار الشيوعية والاتحاد السوفييتي. وعليه، فقد كان الافتراض أن ترحب موسكو بميلاد جارة جديدة لها، مستقرة سياسياً ومزدهرة اقتصادياً، بدلاً من العدوان عليها والسعي إلى هدم تطلعاتها. وعقب ذلك العدوان الروسي، كان علينا أن نواجه الخيارات التي فرضها الغزو. وكما نعلم، ففي غالب الأحوال أن تنطوي الدول على نفسها داخلياً عندما تكون في مواجهة التحديات الكبيرة والتهديدات الخارجية. لكننا لم ننطو بل تمسكنا بكل القيم والمبادئ التي نشترك فيها مع الغرب، ومن أهمها نشر الحريات الاقتصادية والشخصية. ونحن ندرك أن هذه القيم هي التي توفر أفضل حماية وأمن لنا. كما ندرك أنها هي التي ألهمت المواطنين وأثارت حميتهم للبناء وإعادة الإعمار على رغم علمهم بأن بلادهم لاتزال تقع في مرمى المدفعية الروسية. وللحقيقة، فقد أبديتُ تمسكاً أبعد وأكثر عمقاً بنهج الإصلاح الديمقراطي. فعندما خرجت إلى الشوارع مظاهرات شهر أبريل الماضي، واجهتها الحكومة بدرجة عالية من الانفتاح والصبر وضبط النفس. وبلغ ذلك التقيد حداً سمحت فيه الحكومة للمتظاهرين بإغلاق الطريق الرئيسي المؤدي إلى العاصمة تبليسي لمدة ثلاثة أشهر كاملة، رغم عدم مشروعية ذلك الفعل. ولم نكتف بذلك فحسب، بل دعونا قادة المعارضة لبدء حوار معهم حول الإصلاحات الدستورية، وإدارة العملية الانتخابية، إلى جانب إصلاح السياسات الإعلامية والقضائية... إلخ. وفي الشهر الماضي، أعلنت التزاماً محدداً ومقيداً بجدول زمني معلوم. والمقصود بهذا أن يتم الانتخاب المباشر لمناصب العمد في شهر مايو المقبل، إلى جانب الإعلان عن قانون انتخابي جديد والتوصل إلى إجماع شعبي على عضوية لجنة الانتخابات المركزية. كما شملت الإصلاحات كذلك خفض السلطات الرئاسية في مقابل زيادة السلطات البرلمانية، وفرض عقوبات مشددة على المسؤولين الذين يحاولون التأثير على استقلالية القضاة. أما في الجانب الإعلامي، فشملت الإصلاحات تشكيل مجلس تلفزيوني إذاعي وطني، يتساوى فيه عدد مندوبي الأحزاب المعارضة مع عدد نظرائهم من أحزاب الائتلاف الحكومي. وفي الوقت نفسه، نعرب عن كبير تقديرنا للاستجابة الدولية المساندة لنا في ما تعرضنا له من عدوان روسي. فقد تعهد المجتمع الدولي بما يزيد على 4.5 مليار دولار للمساعدة في إعادة إعمار ما دمرته الحرب، فضلاً عن إعانة نازحي الحرب الداخليين. وضمن هذه الاستجابة الدولية، عودة تدفق المستثمرين الأجانب إلى جورجيا. بل أعلن المجتمع الدولي شجبه لانتهاكات روسيا لشروط اتفاق وقف إطلاق النيران. وليس أدل على ذلك من دفاع الرئيس الأميركي باراك أوباما القوي عن وحدة الأراضي الجورجية وحق جورجيا في تطلعاتها للانضمام إلى حلف "الناتو". جاء ذلك أثناء زيارته إلى موسكو في شهر يوليو المنصرم. بقي أن نقول إن بلادنا تواجه وضعاً قديماً ومتجدداً في آنٍ واحدٍ. فمثلما أُقيم حائط برلين في الماضي ليفصل بين ألمانيا الشرقية والغربية في فترة الحرب الباردة، فاليوم يفصل بين جورجيا وإقليميها المحتلين سلك شائك فحسب، أقامه الروس المحتلون. يضاف إلى ذلك أن المراقبين قد طردوا من تلك الأراضي المحتلة، بينما كممت أفواه الصحافة، ومُنع المواطنون الجورجيون من العودة إلى بيوتهم التي شردوا منها هناك. وفي المقابل، تواصل موسكو بناء وتوسيع قواعدها العسكرية. ومن شأن هذه التطورات والسلوكيات العدوانية أن تزعزع اعتقاد كافة الدول الحرة بعدم مشروعية تغيير الحدد عن طريق القوة والعنف. وما لم يقف العالم كله في مواجهة هذه التكتيكات القائمة على العدوان الحدودي وإعطاء مشروعية لعمليات التطهير العرقي ضد المواطنين، وزعزعة استقرار الدول المستقلة وذات السيادة، وابتزازها سياسياً بقطع إمدادات الوقود عنها، فإنه لا سبيل لتحقيق أدنى استقرار في المنطقة بأسرها. ورغم مطالبتنا للعالم بدعم مبدأ وحدة التراب الجورجي مع عدم الاعتراف بالمناطق المنشقة عنها، فإننا لا نسعى لتحقيق هذا الهدف عبر المواجهة العسكرية مع موسكو. فنحن على يقين بأن الديمقراطية والانفتاح والتمسك بقيم الحرية ومبادئها، هي التي تستعيد لجورجيا حقوقها المسلوبة ووحدة ترابها المعتدى عليه. وما مصير هذا السلك الشائك الذي تقيمه موسكو بين تبليسي وأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، سوى الهدم بمعاول الديمقراطية، تماماً مثلما هدمت المعاول نفسها حائط برلين من قبل. ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"